المجزوءة الثانية:الطبيعة والثقافة : المحور الثالث: الإنسان والطبيعة
المحور الثالث: الإنسان والطبيعة
من الانسجام مع الطبيعة إلى الصراع معها
الإنسان أعلى الرئيسات، خرج من صيرورة نشوء الحياة على سطح الأرض وتطور أنواعها بقامة تميل إلى الانتصاب الكامل Homo Erectus وبدماغ حجمه كبير جدا وجهاز عصبي مركزي عالي التعقيد قادر على توجيه اليد وضبط حركاتها ضبطا محكما مما شكل تحولا نوعيا حقيقيا وجديدا، لم يسبق له مثيل في تاريخ تطور الأنواع الحية. هذا التطور العالي جدا للجهاز العصبي، بالقياس إلى الأنواع الحية القريبة من الإنسان، رافقه انحسار كامل لأنماط السلوك الغريزية المبرمجة وراثيا و بيولوجيا بصورة مسبقة لصالح محركات (دوافع) جديدة مثل الحاجة والميل والنزوع والدافع ولصالح هيمنة آليات مثل التعلم وإمكانية نقل ما تم تعلمه من جيل إلى جيل بطريق مغايرة كلية لطريق النقل الوراثي- البيولوجي المسيطرة سيطرة شبه كلية في باقي مملكة الحيوان...
بالمقارنة مع باقي أنواع المملكة التي ينتمي إليها الإنسان، يبدو الإنسان أكثر الحيوانات ضعفا وعجزا وأكثرها حاجة لغيره وأعظمها اعتمادا على أفراد جنسه. في الواقع إنه الكائن الحي "المحتاج" بامتياز. بهذا المعنى، الإنسان نقلة نوعية حقيقية وجديدة في تاريخ نشوء الأنواع وتطورها، إنه في وقت واحد: من صنع الطبيعة وإنتاجها من جهة أولى، ومنفصل عنها ومنقطع عن آلياتها المعروفة من جهة ثانية.
إن فكرة التطور العلمي والتقني المستمر الذي سيقود الإنسانية إلى عهد جديد قوامه السعادة للنوع البشري هي التي سادت في القرن 19 م
وبانتهاء حقبة "الحرب الباردة" ، برزت أمام العلم الحديث مشكلات أخرى اكثر تعقيدا لينتهي القرن 20م بعد سنوات من الفظاعة والهمجية في مختلف أنحاء العالم. سوف يحصل القرن 20م من قائمة جوائز التاريخ على الجائزة الكبرى في الرعب عن جدارة واستحقاق . في الاتجاه الآخر، كان القرن 20م، الذي يجسد قمة الحداثة زمنيا ومعرفيا، قرن الاختلالات الاقتصادية الكبرى بين دول الشمال والجنوب. تلك الاختلالات التي جاءت "العولمة" لتكرسها ذلك أن ربع سكان العالم يعيشون حياة ميسورة في مقابل ثلاثة أرباع يعيشون في مستويات اقتصادية متدينة. وكان القرن الماضي كذلك قرن تدمير البيئة بامتياز، فهو قرن استخدام السلاح النووي و كارثة تشرنوبيل وثقب الأزون... لقد أضحى النمو الاقتصادي يتم على حساب الطبيعة الأمر الذي أصبح يهدد الإنسان. فوق هذا وذاك، انتهه بنا التطور العلمي والتقني إلى استلاب الإنسان، فقد أجهز على الشروط التي من شأنها أن تسمح للإنسان بتطوير قدراته الإبداعية والخلاقة إذ أصبح مجرد تابع ومستغل من طرف الآلة، مستلبا، مقطوعا عن الجماعات وعن نقسه، فالعمل قد انتزع منه إنسانيته وجعله ينفي ذاته بدل أن يثبتها مما أدى به إلى الإحساس بالبؤس بدل السعادة. وهكذا فقد جمد العمل الإنسان وأتلف ذهنه و بالتالي لم يعد قادرا على الخلق والإبداع الحـر ونتيجة لهذا المعطى تشكلت الفردانية في أسمى صورها على حساب المعايير الدينية والأخلاقية ووصل الإنسان إلى حالة الأنومالية Anomalie (حالة تفكك القواعد المعيارية). حيث تقلص دور العلاقات الإنسانية بفعل عمل التقنية وهكذا غدا الإنسان ذا بعد واحد.
لقد خلف التصنيع والتكنولوجيا الحديثة آثاراً سلبية على الطبيعة، فانطلاق الأبخرة والغازات وإلقاء النفايات أدى إلى اضطراب السلاسل الغذائية، وانعكس ذلك على الإنسان الذي أفسدت الصناعة بيئته وجعلتها في بعض الأحيان غير ملائمة لحياته كما يتضح مما يلي:
- تلويث المحيط المائي: إن للنظم البيئية المائية علاقات بحياة الإنسان، فمياهها التي تتبخر تسقط في شكل أمطار ضرورية للحياة على اليابسة، ومدخراتها من المادة الحية النباتية والحيوانية تعتبر مدخرات غذائية للإنسانية جمعاء في المستقبل، كما أن ثرواتها المعدنية ذات أهمية بالغة.
- تلوث الجو: تتعدد مصادر تلوث الجو، ويمكن القول أنها تشمل المصانع ووسائل النقل والانفجارات الذرية والفضلات المشعة والغازية وبعض المركبات العضوية والعناصر المشعة. وإذا زادت نسبة هذه الملوثات عن حد معين في الجو أصبح لها تأثيرات واضحة على الإنسان وعلى كائنات البيئة.
- تلوث التربة: تتلوث التربة نتيجة استعمال المبيدات المتنوعة والأسمدة وإلقاء الفضلات الصناعية، وينعكس ذلك على الكائنات الحية في التربة، وبالتالي على خصوبتها وعلى النبات والحيوان، مما ينعكس أثره على الإنسان في نهاية المطاف.
والإنسان يحتاج إلى أكسجين لتنفسه للقيام بعملياته الحيوية، وكما يحتاج إلى مورد مستمر من الطاقة التي يستخلصها من غذائه العضوي الذي لا يستطيع الحصول عليه إلا من كائنات حية أخرى نباتية وحيوانية، ويحتاج أيضاً إلى الماء الصالح للشرب لجزء هام يمكنه من الاستمرار في الحياة. وتعتمد استمرارية حياته بصورة واضحة على إيجاد حلول عاجلة للعديد من المشكلات البيئية الرئيسية التي من أبرزها مشكلات ثلاث:
· كيفية الوصول إلى مصادر كافية للغذاء لتوفير الطاقة لأعداده المتزايدة.
· كيفية التخلص من حجم فضلاته المتزايدة وتحسين الوسائل التي يجب التوصل إليها للتخلص من نفاياته المتعددة، وخاصة النفايات غير القابلة للتحلل.
· كيفية التوصل إلى المعدل المناسب للنمو السكاني، حتى يكون هناك توازن بين عدد السكان والوسط البيئي.
ومن الثابت أن مصير الإنسان، مرتبط بالتوازنات البيولوجية وبالسلاسل الغذائية التي تحتويها النظم البيئية، وأن أي إخلال بهذه التوازانات والسلاسل ينعكس مباشرة على حياة الإنسان ولهذا فإن مننفعة الإنسان تكمن في المحافظة على سلامة النظم البيئية التي تؤمن له حياة أفضلمن خلال:
التدبير الجيد للغابات وللمراعي وللأراضي الزراعية، ومكافحة تلوث البيئة، والتعاون البناء بين القائمين على المشروعات وعلماء البيئة، ثم تنمية الوعي البيئي لأن البشرية بحاجة إلى أخلاق اجتماعية عصرية ترتبط باحترام البيئة. ولا يمكن أن نصل إلى هذه الأخلاق إلا بعد توعية حيوية توضح للإنسان مدى ارتباطه بالبيئة و تعلمه أ، حقوقه في البيئة يقابلها دائماً واجبات نحو البيئة، فليست هناك حقوق دون واجبات.